( هند ) !! قالها بتعجب عندما امسك بذراعها بقوة ليتأكد من أنها هي حقا .
- انتفضت خائفة , كادت أن تصرخ , أبعدت ذراعه وقالت له : ابتعد يا لك من جبان .
- عندها أجابها !! ما لذي جاء بك يا هند إلى هذا المكان العتيق ؟؟
- لم تجد له جواباً سوى الصمت , قطع هذا الصمت وقال بتعبيراته الحزينة عليها : هذا المكان اقل منك بكثير , هل أتيت لزيارة احد ما ؟؟
في هذه اللحظة تفجر الدم في عروقها وقالت ومن تظنني ابنته حتى تقول هذا الكلام .
- ما نغمة اليأس هذه منذ أن كنا ...... ,, قاطعته قائلة "كنا " وذلك كان في الماضي , لقد سافرت لسنوات طوال , وهذا هو حالنا في هذه الأيام .
انقطعت الكهرباء ليحل الظلام , فتردف قائلة : ها لقد حل صديقنا الظلام , سوف ترى هنا مشهدا مختلفاً , سترى جميع أهل هذا الزقاق وقد أوقدوا الشموع في الشرفات حتى يضئ المكان وكأنه ضوء الكهرباء .
- هند أنا لم اعد افهم شيئاً ! ابنة العم محمد اكبر تجار القماش في سوق بلدتنا في حي شعبي كهذا ! قد أقول حي لأرتقي به قليلاً ولكن ما أراه لا يشبه إلا أكواخاً صغيره .
- و أنا يا خالد اسكن هنا منذ زمن ليس ببعيد .
- إذن يا هند لا بد أن هناك كارثة بالتأكيد أودت بك وأسرتك إلى هذا المآل .
- ليست القصة بالقصيرة يا خالد حتى أقصها عليك في مصادفة وعلى رصيف زقاق حي شعبي لا يوجد به إلا الأكواخ التي لا تليق بك كما تذكر .
- ولكني لم أتوقع يوما أن أراك مجدداً , أريد أن اعرف عنك كل شئ وما حدث ولم اعرفه , فأنا الآن الغائب الحاضر .
- إذا امتلكت شيئاً من التواضع فلتقبل دعوتي لفنجان من القهوة , كما كنت تحبها دون سكر على ما أتذكر ! فلتتفضل مع صديقنا الظلام إلى مجلس الشموع الصغير في منزلنا الجديد ولنتحدث .
- امسك بيدها في الظلام واخذ يخطوا بها خطوات نحو مكان آخر , هي تعرف طريق دارها جيدا حتى لو في الظلام , فبادرته قائلة : ولكن ليست هذه هي الطريق ! إلى أين ستذهب ؟!
- لقد صمت ولم يجبها ولكنه أجابها بإطباق قبضته على يدها , عندما شعرت أن هناك شئ ما قالت له في دهشة : أظن أن هذا الطريق يؤدي إلى منزل الخالة فاطمة , وقد نسلك الردهة التي تسبقه إلى منزل صغير تسكنه أسرة كبيرة كما يقولون أو عدة اسر في حجرتين !
- توقف وهو يقول : وهل تعرفين من هؤلاء الأسر ! أجابته بذات الدهشة وقالت الم تلحظ أنني عندما تحدثت عنهم قلت كما يقولون ! أي أنني لا أعرف أحداً هنا سوى الخالة فاطمة , جذبها بقوة حيث تلك الردهة حيث كانت الضوضاء تعم المكان وتنبعث منه رائحة الفوضى , وقال لها أنا الآن من دعاك لجلسة شموع , فلتجلسي ولتفضي إلي بما في داخلك .
- خالد لابد وان تقول لي أولاً أين نحن فأنا بالرغم من أنني اعرف المكان جيدا ولكني أخشى هؤلاء الناس الذين يقطنون هنا , بالإضافة إلى ذلك لا اعلم لم أحضرتني إلى هنا ..
- لقد أتيت بك إلى هنا يا حبيبتي لتجلسي على ذلك الكرسي الفاخر في أقذر مكان في هذه المدينة ولنتحدث عن المعاناة .
- هل تقول معاناة ! معاناة من بالضبط يا خالد .
- معاناة من يسكنون هنا , معاناتك , معاناتي في غربتي بين أهلي , لقد أجابته في استهزاء , هنا القاهرة ! ولكنه أجابها بذات الاستهزاء : نعم نحن في قاهرة ليست لنا ولا تريد أبناء لها .
- لقد باعتنا أرضنا بأرخص الأثمان يا خالد , ثمن لا يباع ولا يشترى , ثمن يهدر وفقط , ثمن يشردنا ونحيا في فوضى كهذه تماما .
- عادت الكهرباء لتكتشف أنها في غرفة قديمة واهنة وأريكة بالية وقدرين على جنب الموقد الصغير حينها عرفت إنها دخلت عالم الفقر , عالم فيه أناس مختلفون , عالم لا يعرف فيه الضوء الأبيض , عالم ليس فيه سوى برد الشتاء القارص ..
اخترق ذلك الصندوق الذي لم يتعدى المتر المربع طفل صغير لم ينسى ملامح هند ليقذف نفسه بين أحضانها , أخذت تتملقه برهة ولكن سريعا ما عرفت ذالك الإحساس , وتلك اللهفة , احتضنته بقوة دمعت عيناها " فراس " !! طفلي الصغير هل مازلت تخاف من الظلام ! أخذت تملس على شعره الصغير الأشقر وهي تقول : لقد كبرت يا فراس , ولكن هيا اخبرني يا بطل في أي صف تدرس , ولكن خالد أجابها بنبرة حزن بدلا عن ذلك الصغير الذي أضاع الصمت عباراته : وأي دراسة هذه يا هند ! وهل تظنين أناس مثلنا سوف يدرسون !! ولكن أين ؟؟ وكيف لنا بالمال !!
- لا تذكر لي أن هذا منزلكم وان أسرة من تسعة أفراد يقطنون هذه الحجرات الصغيرة للغاية !!
- بل هذه الحقيقة , هذا منزلنا منذ أن ذهب أبي وتبعه أخي الأكبر ليترك لنا فراس وأخويه صغيرين فلم نعد تسع بل أصبحنا إحدى عشر , فأين ستذهب زوجته فأنت كما تعلمين إنها ليست عربية , ولم تكن مسلمة فيما قبل , لقد قَتَلَ .......
- لا تكمل يا خالد , قتل والدك والدي في حادث سير خاطئ ..
- وقد أخذت الحماسة أخي فقتل والدك وهرب إلى هنا خوفاً من الثأر .
- لقد مرت أربعة سنوات يا خالد , لماذا لم نلتقي سوى اليوم !!
- بعدما ذهب أخي إلى السجن وتوعده عمك بالقتل هربت أنا خوفاً إلى ايطاليا ..
- وتركتني يا خالد بلا شئ , بلا عقد زواج ولا حتى شهادة تقيد بها مولودنا ..
- اعذريني يا هند , ولكني واجهت الكثير من الصعاب واتهمت في قضايا كثيرة ..
- نظرت إليه نظرة لا مبالاة وهي تقول : وكم لديك من الأطفال الآن من تلك الايطالية .. اخذ يقلب نظره في وجهها وهو يقول : ولكني لم أسافر إلى ايطاليا ولا لأية مكان آخر , لقد كنت هنا أرقبك من بعيد لعدة أسابيع حتى سقطت سجين عائلتين متصارعتين , سجين لا ذنب له بسجنه , سجين بلا قضبان , سجين يسير بين الناس في الشوارع والأزقة , سجين من المؤكد انه عاطل عن العمل كي لا يفتضح أمره , سجين غني هجر ماله ولاذ بأرواح أهله في مأوى لا يمكن أن يكون سوى مأوى للحيوانات والحشرات .
- لقد هربت لذات الشئ إلى هنا , كي لا يجدني أحد , فلقد أصبحت ابنة عائلتكم بعدما أنجبت طفلنا , لقد أرادوا وأد الطفل , هربت إلى هنا , إلى حياة ليست كالحياة .
نهضت من مكانها مسرعة لتلق برأسها بين قدميه وتقبل يديه : أنقذنا يا خالد , لنرحل من هنا إلى الأبد , رفع رأسها امسك بيدها أجلسها إلى جانبه وربت على كتفها وهو يقول والألم يملؤه : لقد أصبح عمر أختي نيفين ستة وعشرون عاما , لقد تركها خطيبها , متى ستتزوج إذن ؟! وكيف ونحن هنا في مكان كهذا ؟! لقد أصبحت عانس أو في الطريق إلى ذلك !
- خالد مازلت زوجي وهؤلاء اهلك وأهلي سوياً , لنذهب إلى عالم آخر , أجابها دامعاً : هند !! إلى أين سنذهب ؟؟ ومن أين لي بالمال ؟؟ !!
بقلمي :
أنـــــــ ـا / أسماء خليفة
" أُنْثَى حَالِمهــ "